معنى
الرحمة
لغة واصطلاحاً
معنى الرحمة لغة:
قال الجوهري: الرحمة: الرقة والتعطف
(1).
وقال ابن منظور: والرَّحْمَةُ في بني آدم عند العرب رِقَّةُ القلب وعطفه
(2).
ومنها الرَّحِم: وهي عَلاقة القرابة، ثم سمِّيت رَحِمُ الأنثى رَحِماً من
هذا، لأنّ منها ما يكون ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ له مِن ولد (3).
وقد تطلق الرحمة
ويراد بها ما تقع به الرحمة كإطلاق الرحمة على الرزق والغيث (4)
معنى الرحمة
اصطلاحاً:
(الرَّحْمَةُ رقّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ، وقد تستعمل تارة
في الرّقّة المجرّدة، وتارة في الإحسان المجرّد عن الرّقّة) (5)
وقيل: (هي رقة
في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه) (6)
وقال عبد الرحمن الميداني:
(الرحمة رقة في القلب يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود الألم
عند شخص آخر أو يلامسها السرور حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند
شخص آخر) (7)
_________
(1) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1929) و ((معجم
مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 498).
(2) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/
230).
(3) ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 498).
(4) ((لسان العرب))
(12/ 230).
(5) ((مفردات القرآن)) للراغب (1/ 347).
(6) ((التحرير والتنوير))
لابن عاشور (26/ 21).
(7) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/
3).
مقتضى
الرحمة
ومقتضى
الرحمة هو إيصال الخير إلى الغير, حتى وإن كان هذا الخير مكروهاً إليه مبغضاً من
قبله, وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله:
(الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع
والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم
الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك
فمن رحمة الأب بولده: أن
يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي
تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه
ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل) (1).
فأساسها قائم على ود وجزع, حب وخوف .. ود
وحب للمرحوم يدفع الراحم إلى إرادة الخير له والسعي في إيصاله إليه, وجزع وخوف على
المرحوم من أن يقع في مكروه أو يصيبه أذى.
قال الجاحظ: (الرّحمة خلق مركّب من
الودّ والجزع، والرّحمة لا تكون إلّا لمن تظهر منه لراحمه خلّة مكروهة، فالرّحمة هي
محبّة للمرحوم مع جزع من الحال الّتي من أجلها رحم) (2).
_________
(1)
((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (2/ 174).
(2) ((تهذيب الأخلاق للجاحظ)) (ص
24).
الفرق
بين الرحمة والرأفة
الرحمة
والرأفة كلمتان مترادفتان في المعنى إلا أن بينهما فرق لطيف, فبينهما عموم وخصوص
مطلق, فالرأفة خاصة في دفع المكروه عن المرحوم بينما الرحمة تشمل هذا المعنى
وغيره.
قال ابن عاشور: (والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرؤوف به. يقال: رؤوف
رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق) (1).
وقال
القفال: (الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه
وإزالة الضرر كقوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:
2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه
ذلك المعنى ويدخل فيه الانفصال والإنعام) (2)
وقال أبو البقاء الكفوي: (الرحمة
هي أن يوصل إليك المسار والرأفة هي أن يدفع عنك المضار ... فالرحمة من باب التزكية
والرأفة من باب التخلية والرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة هي رفع المكروه وإزالة الضر
فذكر الرحمة بعدها في القرآن مطرداً لتكون أعم وأشمل) (3)
وقيل أن: (الرأفة أشد
من الرحمة)، وقيل: (الرحمة أكثر من الرأفة، والرأفة أقوى منها في الكيفية، لأنها
عبارة عن إيصال النعم صافية عن الألم) (4).
_________
(1) ((التحرير
والتنوير)) (10/ 239).
(2) ((مفاتيح الغيب)) (4/ 93).
(3) ((الكليات)) لأبي
البقاء الكفوي (1/ 742).
(4) ((الفروق اللغوية)) (1/
246).
فضل
الرحمة
الرحمة
خلق سام, وسجية عظيمة لا بد أن يتخلق بها المؤمن ويتصف بها, فهي من مبادئ الإسلام
الأساسية, وأخلاقه الكريمة.
وتتجلى أهميتها في أن الله عز وجل تسمَّى واتصف بها,
فمرة باسم الرحمن ومرة باسم الرحيم فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
قال
تعالى: الرحمن الرحيم فجمعهما الله في مكان واحد لتستغرقان جميع معاني الرحمة
وحالاتها ومجالاتها (1).
وتكمن أهمية هذه الصفة أيضاً في كونها ركيزة من أهم
الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم بجميع أفراده, يستشعرون من خلالها معنى
الوحدة والألفة فيصيرون كالجسد الواحد الذي يشتكي إذا اشتكى أحد أعضائه ويئن إذا
أنَّ.
((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد. إذا اشتكى منه
عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (2).
وتتضح أهميتها أيضاً في أن أهلها
مخصوصون برحمة الله تبارك وتعالى دون سواهم, معنيون بها دون غيرهم فقد قال الرسول
صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في
السماء)) (3).
كما تتضح أهميتها في جوانب أخرى سنعرض لها عند ذكر الآيات
والأحاديث الدالة على هذه الصفة العظيمة والسجية الكريمة.
_________
(1)
((صحيح مسلم)) (2586).
(2) رواه البخاري (6011)،ومسلم (2586) من حديث النعمان بن
بشير رضي الله عنه.
(3) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160)
(6494) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه
الألباني في ((صحيح الجامع)) (3522).
الترغيب
والحث على الرحمة في القرآن والسنة
الترغيب
والحث على الرحمة من القرآن الكريم:
ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير آية من
كتابه الكريم, إما في معرض تسميه واتصافه بها, أو في معرض الامتنان على العباد بما
يسبغه عليهم من آثارها, أو تذكيرهم بسعتها, أو من باب المدح والثناء للمتصفين بها
المتحلين بمعانيها, أو غير ذلك من السياقات.
وسنذكر بعض هذه السياقات القرآنية
والتي يتضح من خلالها مقدار هذا الخلق العظيم الذي أثنى الله على أصحابه, وحث على
التخلق به واكتسابه.
تسميه جل وعلا باسم الرحمن والرحيم واتصافه بصفة
الرحمة:
وهذا كثير جداً في القرآن نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر:
- قال
الله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[الفاتحة: 2 - 3] فقد سمى الله نفسه بهذين الاسمين المشتملين على صفة الرحمة, قال
ابن عباس: (هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة) (1).
- ومن
ذلك بيان أن من كمال رحمته قبول توبة التائبين, والتجاوز عن المسيئين, قال تعالى:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37]. وقوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102].
- ومن ذلك
أيضاً بيان أن من رحمته عدم مؤاخذة الناس بذنوبهم, أو عقابهم بأخطائهم ومعاصيهم,
وأنه لو فعل لعاجلهم بالعذاب, قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ
لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ
مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58].
- ومن ذلك امتنانه
على الخلق بأن رحمته وسعت كل شيء, وأنها رغم سعتها لا يستحقها إلا الذين اتقوه
واستجابوا لأمره, قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156].
- ومن ذلك امتنانه على خلقه بما شرع لهم من أحكام
وأن ذلك من كمال رحمته ورأفته بهم. قال تعالى: وكذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143].
- ومن
ذلك أن الله جعل هذه الصفة خلق لصفوة خلقه وخيرة عباده وهم الأنبياء والمرسلين, ومن
سار على نهجهم من المصلحين, فقد قال الله تعالى ممتناً على رسوله صلى الله عليه
وسلم على ما ألقاه في قلبه من فيوض الرحمة جعلته يلين للمؤمنين ويرحمهم ويعفو عنهم,
ويتجاوز عن أخطائهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:
159].
أي فبسبب رحمة من الله أودعها الله في قلبك يا محمد، كنت هينا لين الجانب
مع أصحابك، مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك (2).
_________
(1) ((تفسير البغوي))
(1/ 51).
(2) ((صفوة التفاسير)) للصابونى (1/ 154).
-
ومن ذلك ثناء الله على المتصفين بالرحمة والمتخلقين بها, فقد قال تعالى واصفاً
رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]
فهم أشداء على الكفار رحماء بينهم, بحسب ما يقتضيه منهم إيمانهم, فالإيمان بالله
واليوم الآخر متى تغلغل في القلب حقاً غرس فيه الرحمة بمقدار قوته وتغلغله ولكن جعل
لها طريقاً لا تتعداه (1).
وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 – 18].
قال محمد الطاهر عاشور:
خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَاصِيَهِمْ بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصِيَهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ صِفَاتِهِمْ بَعْدَ
الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِلَاكُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا
لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ كَبْحِ الشَّهْوَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَذَلِكَ مِنَ
الصَّبْرِ. وَالْمَرْحَمَةُ مِلَاكُ صَلَاحِ الْجَماعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالَ
تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29].وَالتَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ
فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ
لِأَنَّ مَنْ يُوصِي بِالْمَرْحَمَةِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ قَدْرَهَا وَفَضْلَهَا،
فَهُوَ يَفْعَلُهَا قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا. (2)
الترغيب والحث على الرحمة من
السنة النبوية:
أما السنة فقد استفاضت نصوصها الداعية إلى الرحمة, الحاثة عليها,
المرغبة فيها إما نصاً أو مفهوماً, كيف لا .. وصاحبها صلى الله عليه وسلم هو نبي
الرحمة كما وصف نفسه فقال: ((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي
الرحمة)) (3) , وهو الرحمة المهداة إلى جميع العالمين حيث قال: ((إنما أنا رحمة
مهداة)) (4).
- فعن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى)) (5).
يقول الإمام النووي – رحمه
الله - معلقاً على هذا الحديث: (هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم
على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه)
(6).
_________
(1) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/ 17).
(2) ((التحرير
والتنوير)) (30/ 361).
(3) رواه مسلم (2355) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه.
(4) رواه الحاكم (1/ 91) (100)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 223)
(2981)، والبزار (16/ 122) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال البزار: هذا
الحديث لا نعلم أحدا وصله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا مالك بن سعير
وغيره يرسله فلا يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه, إنما يقول عن أبي صالح عن النبي
صلى الله عليه وسلم. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 300): رجال البزار رجال
الصحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2583).
(5) رواه البخاري (6011)،
ومسلم (2586).
(6) ((شرح النووي على مسلم)) (16/
139).
وقال
بن أبي جمرة: (الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى
لكن بينها فرق لطيف فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا
بسبب شيء آخر وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي
وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف الثوب عليه ليقويه) (1) اهـ
ملخصاً.
- وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة)) (2).
قال ابن بطال: (رحمة
الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التي يرضاها الله ويجازي
عليها، ألا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبي صلى الله عليه
وسلم أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: ((من لا يرحم لا يرحم)) (3).
- وعن
عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: ((الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السّماء))
(4).
قال شمس الدين السفيري: (فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى الرحمة والعطف
على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها
الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل
بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة
بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه
الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه
عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته) (5).
- وعن أبي هريرة-
رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((لا تنزع الرّحمة
إلّا من شقيّ)) (6).
قال ابن العربي: (حقيقة الرحمة إرادة المنفعة وإذا ذهبت
إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الإيمان والإسلام). (7)
ويقول
المناوي: (لأن الرحمة في الخلق رقة القلب ورقته علامة الإيمان ومن لا رأفة له لا
إيمان له ومن لا إيمان له شقي فمن لا رحمة عنده شقي) (.
- وعن جرير بن عبد
الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يرحم الله من
لا يرحم النّاس)) (9).
يقول العلامة السعدي رحمه الله: (رحمة العبد للخلق من
أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات
الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة
والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع
النقم، من رحمة الله.
_________
(1) ((فتح الباري)) لابن حجر (10/
439).
(2) رواه البخاري (5998).
(3) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد
(2/ 160) (6494). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع))
(3522).
(5) ((شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين السفيري (2/ 50 - 51).
(6) رواه
أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (2/ 301) (7988). وحسنه الترمذي، والسيوطي
في ((الجامع الصغير)) (9870)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7467).
(7)
((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (6/ 547).
( ((التيسير بشرح الجامع الصغير))
للمناوي (2/ 962).
(9) رواه البخاري (7376). فمتى
أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع
كلها في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:
56] وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر
من آثار رحمة العبد بهم) (1).
أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخلق ظلوماً
غشوماً, شقياً, فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
-
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ((قبّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحسن بن
عليّ وعنده الأقرع بن حابس التّميميّ جالسا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما
قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: من لا يرحم
لا يرحم)) (2).
قال ابن بطال بعد أن ذكر عدداً من الأحاديث وذكر هذا الحديث من
جملتها: (في هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم
ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا،
فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه
وفى كل حيوان) (3).
وقد دل الواقع والمشاهدة أن من لا يرحم الناس ولا يعطف عليهم
إذا صادف موقفاً يحتاج فيه إلى رحمتهم فإنهم لا يرحمونه ولا يعطفون عليه, وقد ذكر
صاحب الأغاني أن محمد بن عبد الملك كان يقول: الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة,
ما رحمت شيئاً قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول, فلما وضع في الثقل
والحديد قال: ارحموني فقالوا له: وهل رحمت شيئاً قط فترحم. هذه شهادتك على نفسك
وحكمك عليها. (4)
واستفاضت الأحاديث الدالة على الرحمة بمفهومها وهي لا تكاد
تحصى, وذلك لأنه ما من معاملة من المعاملات أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو
الإنسانية إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة.
فمن علاقة الإنسان بنفسه التي بين
جنبيه, وعلاقته بذويه وأهله, إلى علاقته بمجتمعه المحيط به, إلى معاملته لجميع خلق
الله من إنسان أو حيوان كل ذلك مبني على هذا الخلق الرفيع والسجية
العظيمة.
_________
(1) ((بهجة قلوب الأبرار)) لعبدالرحمن السعدي (ص
269).
(2) رواه البخاري (5997) ومسلم (2318).
(3) ((شرح صحيح البخاري)) لابن
بطال (9/ 219).
(4) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/
219).
أقسام
الرحمة
أقسامها
من حيث المدح والذم:
إن في خلق الرحمة ما هو محمود – وهو الأصل – وما هو
مذموم.
أما المحمود فهو ما ذكرناه آنفاً واستدللنا عليه من كتاب الله وسنة
المصطفى صلى الله عليه وسلم بما يغني عن إعادة ذكره هنا.
- وأما المذموم: فهو ما
حصل بسببه تعطيل لشرع الله أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره, كمن يشفق على من ارتكب
جرماً يستحق به حداً, فيحاول إقالته والعفو عنه, ويحسب أن ذلك من رحمة الخلق وهو
ليس من الرحمة في شيء, بل الرحمة هي إقامة الحد على المذنب, والرأفة هي زجره عن
غيِّه وردُّه عن بغيه بتطبيق حكم الله فيه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى: (إنَّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا أَدْوِيَةٌ نَافِعَةٌ يُصْلِحُ
اللَّهُ بِهَا مَرَضُ الْقُلُوبِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ
وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ الدَّاخِلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فَمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ
النَّافِعَةَ لِرَأْفَةِ يَجِدُهَا بِالْمَرِيضِ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ عَلَى
عَذَابِهِ وَهَلَاكِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْخَيْرَ إذْ هُوَ فِي
ذَلِكَ جَاهِلٌ أَحْمَقُ) (1).
لذا نهى الله تعالى المؤمنين أن تأخذهم رأفة أو
رحمة في تطبيق حدود الله وإقامة شرعه فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]
يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إِنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ
رَسُولِهِ الْمَبْنِيَّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ وَأَنْ يَكُونَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَإِنَّ الرَّأْفَةَ
وَالرَّحْمَةَ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ مُضَيِّعَةً لِدِينِ اللَّهِ)
(2).
ومن الرحمة المذمومة ما كانت سببا في فساد المرحوم وهلاكه, كما يفعل كثير
من الآباء من ترك تربية الأبناء وتأديبهم وعقوبتهم رحمة بهم, وعطفاً عليهم,
فيتسببون في فسادهم وهلاكهم وهم لا يشعرون قال شيخ الإسلام: (مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ
النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الْجُهَّالِ بِمَرْضَاهُمْ وَبِمَنْ يُرَبُّونَهُ مِنْ
أَوْلَادِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ وَغَيْرِهِمْ فِي تَرْكِ تَأْدِيبِهِمْ
وَعُقُوبَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ الشَّرِّ وَيَتْرُكُونَهُ مِنْ
الْخَيْرِ رَأْفَةً بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ فَسَادِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ
وَهَلَاكِهِمْ) (3).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن الرحمة صفة تقتضي
إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة
الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك فمن رحمة الأب
بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه
شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه
ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم) (4).
أقسامهما من حيث الغريزة
والاكتساب:
يقول العلامة السعدي رحمه الله: (والرحمة التي يتصف بها العبد
نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم
الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه
من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما
عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
والنوع
الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم
العبد أن هذا الوصف من أجل مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به،
ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب; فيرغب في فضل
ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن
الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن
يكونوا إخوانا متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء، والعداوات،
والتدابر) (5).
_________
(1) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 291).
(2) ((مجموع
الفتاوى)) (15/ 290).
(3) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 291).
(4) ((إغاثة اللهفان
من مصائد الشيطان)) (2/ 174).
(5) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح
جوامع الأخبار)) (270).
فوائد
الرحمة وآثارها
للتحلي
بخلق الرحمة فوائد عظيمة وثمار جليلة, فما إن يتحلى المؤمن بهذه الحلية ويتجمل بهذه
السجية حتى تظهر آثارها وتؤتي أكلها .. ليس عليه فقط بل عليه وعلى من حوله, وسنعرض
لبعض هذه الآثار والفوائد إجمالاً, فمن ذلك:
1. أنها سبب للتعرض لرحمة الله,
فأهلها مخصوصون برحمته جزاء لرحمتهم بخلقه.
2. ومن أعظم ثمارها أن المتحلي بها
يتحلى بخلق تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3. أن من ثمارها محبة الله
للعبد, ومن ثم محبة الناس له.
4. أنها ركيزة عظيمة ينبني عليها مجتمع مسلم
متماسك يحس بعضه ببعض, ويعطف بعضه على بعض, ويرحم بعضه بعضاً.
5. أنها تشعر
المرء بصدق انتمائه للصف المسلم, إذ أن من لا يرحم لا يستحق أن يكون فرداً في
المجتمع أو جزء منه لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم
صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) (1).
6. على قدر حظ الإنسان من الرحمة تكون درجته عند
الله تبارك وتعالى, لذا كان الأنبياء هم أشد الناس رحمة, وكان الرسول صلى الله عليه
وسلم أوفرهم حظاً منها.
7. أنها سبب لمغفرة الله تبارك وتعالى وكريم عفوه, كما
أن نقيضها سبب في سخطه وعذابه.
8. أن في الاتصاف بها دليل على أن الإسلام دين
رحمة للبشرية لا كما يقول أعداؤه أنه دين يقوم على العنف وسفك الدماء.
9. ومن
أعظم فوائدها أنها خلق متعدٍ إلى جميع خلق الله من إنسان أو حيوان, بعيد أو قريب,
مسلم أو غير مسلم.
10. أنها سبب للالتفات إلى ضعفة المجتمع من الفقراء والمساكين
والأرامل والأيتام والكبار والعجزة, فمجتمع يخلو من هذا الخلق لا يلتفت فيه إلى
هؤلاء ولا يهتم بشأنهم.
وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي يجنيها المجتمع المسلم
من هذا الخلق الكريم.
_________
(1) رواه الترمذي (1920)، وأحمد (2/ 185)
(6733) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه السيوطي في ((الجامع
الصغير)) (7692)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع))
(5444).
صور
الرحمة
ولعلنا
بعد هذا نستعرض بعضاً من مظاهر الرحمة وجانباً من تطبيقاتها على الواقع ومن
ذلك:
1 - شفقة الإمام برعيته, وتجنب ما من شأنه أن يجلب المشقة لهم:
عن
عائشة- رضي الله عنها- قالت: ((أعتم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، حتّى
ذهب عامّة اللّيل، وحتّى نام أهل المسجد ثمّ خرج فصلّى، فقال: إنّه لوقتها لولا أن
أشقّ على أمّتي)) (1).
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: ((إذا صلّى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإنّ في النّاس الضّعيف
والسّقيم وذا الحاجة)) (2).
2 - الأمر بالتوسط في العبادات وعدم الإشقاق على
النفس وإجهادها:
عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
عليها وعندها امرأة، قال: من هذه. قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما
تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه))
(3).
3 - البر بالوالدين .. وخفض جناح الذل من الرحمة لهما:
عن عبد الله بن
مسعود- رضي الله عنه- قال: ((سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أحبّ
إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: الصّلاة على وقتها. قال: ثمّ أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قال:
ثمّ أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) (4).
عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه-
قال: هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليمن. فقال له رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: ((هجرت الشّرك ولكنّه الجهاد. هل باليمن أبواك؟. قال: نعم.
قال: أذنا لك قال: لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى أبويك فإن
فعلا، وإلّا فبرّهما)) (5).
3 - الحث على الاستيصاء بالمرأة خيراً والإحسان
إليها:
((استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوانٌ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) (6).
4 - الشفقة على الأبناء والعطف عليهم والحزن
إذا أصابهم مكروه:
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة)) (7).
وعن أسامة بن زيد- رضي
الله عنهما- قال أرسلت ابنة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليه: إنّ ابنا لي قبض،
فأتنا. فأرسل يقرأ السّلام ويقول: ((إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلّ عنده بأجل
مسمّى. فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها. فقام ومعه سعد بن عبادة
ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم الصّبيّ ونفسه تتقعقع, قال حسبته أنّه قال: كأنّها شنّ ففاضت عيناه. فقال
سعد: يا رسول الله ما هذا؟. فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم
الله من عباده الرّحماء)) (.
5 - الرحمة بمن هم تحت اليد من العبيد والخدم
والعمال وغيرهم:
_________
(1) رواه مسلم (638).
(2) رواه البخاري (703)،
ومسلم (467).
(3) رواه البخاري (43)، مسلم (785).
(4) رواه البخاري (527)،
ومسلم (85).
(5) رواه أبو داود (2530)، أحمد (3/ 75) (11739)، وابن حبان (2/
165) (422). وصحح إسناده الحاكم، وحسن إسناده الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 138)،
وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (892).
(6) رواه مسلم (1218) بلفظ مقارب، من
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) رواه البخاري (5998) من حديث عائشة رضي
الله عنه.
( رواه البخاري (1284)، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله
عنه. (عن
المعرور بن سويد- رحمه الله تعالى- قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة وعلى
غلامه حلّة فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه فقال لي النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم: ((يا أبا ذرّ أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة، إخوانكم
خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه
ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم)) (1).
6 - الأمر
بإحسان القتلة والذبحة:
عن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- أنّه قال: ثنتان حفظتهما
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء. فإذا
قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح
ذبيحته)) (2).
7 - النهي عن تعذيب الحيوان أو إخافته أو إجهاده أو إجاعته:
عن
عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت امرأة
النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) (3).
وعلى
نقيض هذه الصورة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة أخرى لامرأة غفر الله لها
ذنبها بسبب كلب:
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: ((بينما كلب يطيف بركيّة كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيّ من بغايا بني
إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به)) (4).
قال السعدي رحمه الله معلقاً على
هذين الحديثين: (ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي
والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها، عوقب في الدنيا قبل
الآخرة، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر،
وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة، إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على
إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها) (5)
ا. هـ.
وغير ذلك من الأحاديث التي تدل بمفهومها على الرحمة والحث عليها والتخلق
بها.
_________
(1) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661) من حديث أبي ذر رضي الله
عنه.
(2) رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(3) رواه
البخاري (3318)، ومسلم (2242) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) رواه البخاري
(3467).
(5) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (1/
190).
الأسباب
المعينة على التخلق بخلق الرحمة
يقول
العلامة السعدي رحمه الله: (فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف
الجليل، ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا
حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل. وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر
آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس،
وإزالة الأضرار والمكاره عنهم) (1).
وهاك أخي الكريم بعض الأسباب المعينة على
التخلق بهذا الخلق الكريم والسجية العظيمة:
من أهم الأسباب المعينة على التخلق
بهذا الخلق الكريم القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتدبر في
معالمها, والتأسي به في مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم.
مجالسة الرحماء
ومخالطتهم, والابتعاد عن ذوي الغلظة والفضاضة, فالمرء يكتسب من جلسائه طباعهم
وأخلاقهم.
تربية الأبناء على هذا الخلق العظيم ومحاولة غرسه في قلوبهم, ومتى نشأ
الناشئ على الرحمة ثبتت في قلبه وأصبحت سجية له.
معرفة جزاء الرحماء وثوابهم ,
وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم, ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية,
فإن هذا مما يدفع للرحمة ويردع عن القسوة.
معرفة الآثار المترتبة عن التحلي بهذا
الخلق, والثمار التي يجنيها الرحماء في الدنيا قبل الآخرة.
الاختلاط بالضعفاء
والمساكين وذوي الحاجة فإنه مما يرقق القلب ويدعو إلى الرحمة والشفقة بهؤلاء
وغيرهم.
7 - التعرض لرحمة الله والسعي وراء أسبابها, فالله تبارك وتعالى لا يرحم
إلا الرحماء.
_________
(1) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح
جوامع الأخبار)) (ص189).
نماذج
من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال
تعالى واصفاً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم
الناس بالناس وأرأفهم بهم, وعندما نقول (الناس) فإننا لا نعني المؤمنين فقط, ولكننا
نعني المؤمنين ومن لم يكن يدين بدين الإسلام أصلاً, بل إن رحمته صلى الله عليه وسلم
تعدت ذلك إلى الحيوان والجماد وسنعرض هنا بعض النماذج من رحمته صلى الله عليه
وسلم:
رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفار:
- (عن عائشة- رضي الله عنها- زوج
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى
عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟. قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما
لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى
ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت
رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله
قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت
فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثمّ قال: يا محمّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن
شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج
الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا)) (1).
يقول الإمام ابن حجر رحمه
الله: (في هذا الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه ومزيد صبره
وحلمه وهو موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل
عمران: 159] , وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
107]). (2)
رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان:
عن عبد الله بن جعفر رضي الله
عنه قال: ((أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا
أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته
هدفا أو حائش نخل قال فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله
عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: من
رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا
تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه))
(3).?
- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: ((كنّا مع رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها
فجاءت الحمّرة فجعلت تفرّش جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: (من فجع هذه
بولدها؟ ردّوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد حرّقناها، فقال: من حرّق هذه؟. قلنا:
نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلّا ربّ النّار)) (4).
رحمته
بالجماد:
- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم:
((كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول
الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع
إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه،
تئن أنين الصبي الذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها))
(5).
_________
(1) رواه البخاري (3231).
(2) ((فتح الباري)) ابن حجر (6/
316).
(3) رواه أبو داود (2549)، وأحمد (1/ 204) (1745). وصححه الألباني في
((صحيح الترغيب والترهيب)) (2269).
(4) رواه أبو داود (2675). وصحح إسناده
النووي في ((رياض الصالحين)) (455)، وجوَّد إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية))
(3/ 357).
(5) رواه البخاري (3584).
نماذج
من رحمة الصحابة:
وقد
سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه واقتدوا به في التمسك بهذا الخلق
الكريم, حتى صار الرجل المعروف بشدته وصرامته هيناً ليناً رحيماً رؤوفاً:
- فهذا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عرف بشدته وقوته تغير الرحمة من طباعه فيصبح
رقيقاً يمتلأ قلبه رحمة ويفيض فؤاده شفقة، ومما يدل على ذلك قوله لعبد الرحمن بن
عوف حينما أتاه يكلمه في أن يلين لهم لأنه أخاف الناس حتى خاف الأبكار في خدورهن،
فقال: (إني لا أجد لهم إلاَّ ذلك، والله لو أنهم يعلمون ما لهم عندي من الرأفة
والرحمة والشفقة لأخذوا ثوبي عن عاتقي) (1).
- و (رآه عيينة بن حصن يوماً يقبل
أحد أبنائه وقد وضعه في حجره وهو يحنو عليه، فقال عيينة: أتقبل وأنت أمير المؤمنين؟
لو كنت أمير المؤمنين ما قبلت لي ولداً. فقال عمر: الله، الله حتى استحلفه ثلاثاً،
فقال عمر: فما أصنع إن كان الله نزع الرحمة من قلبك؟ إن الله إنما يرحم من عباده
الرحماء) (2).
- (واشتهى الحوت يوماً، فقال: لقد خطر على قلبي شهوة الطري من
حيتان، فخرج يرفأ في طلب الحوت لعمر رضي الله عنه، ورحل راحلته، فسار ليلتين
مدبراً، وليلتين مقبلاً، واشترى مكتلاً، وجاء بالحوت، ثم غسل يرفأ الدابة، فنظر
إليها عمر فرأى عرقاً تحت أذنها، فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر، لا
والله لا يذوقه عمر، عليك بمكتلك) (3).
(ومرّ رضي الله عنه براهب فوقف ونودي
بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد
وترْكِ الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني
رحمته، ذكرت قول الله عزّ وجلّ: عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً
[الغاشية: 3 - 4] رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النار) (4).
- وتُحدثنا أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن امرأة من الصحابة تجلت فيها أروع صور الرحمة
وأعظمها وهي الرحمة بالولد والشفقة عليه .. تقول عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني
مسكينة تحمل ابنتين لها. فأطعمتها ثلاث تمرات. فأعطت كل واحدة منهما تمرة. ورفعت
إلى فيها تمرة لتأكلها. فاستطعمتها ابنتاها. فشقت التمرة، التي كانت تريد أن
تأكلها، بينهما. فأعجبني شأنها. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة. أو أعتقها بها من النار)) (5).
- وهذا
أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه من رحمته أنه كان له جفنة من ثريد غدوة , وجفنة عشية
للأرامل واليتامى والمساكين (6).
_________
(1) ((المجالسة وجواهر العلم))
(4/ 43) (1199).
(2) ((جامع معمر بن راشد)) (11/ 299) (20590).
(3) رواه أحمد
(1/ 319) (443)، وابن عساكر (44/ 301).
(4) رواه عبد الرزاق (3/ 420)
(3584).
(5) رواه مسلم (2630) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) رواه ابن سعد
في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 299)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (62/
99).
نماذج
من رحمة السلف:
رحمة
عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
(كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى حيان بمصر
إنه بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا
فلا أعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل وكتب إلى صاحب السكك أن لا
يحملوا أحدا بلجام ثقيل من هذه الرستنية ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة)
(1).
_________
(1) ((سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس
وأصحابه)) لأبي محمد المصري (ص141).
نماذج
من رحمة العلماء المتقدمين:
رحمة
شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال الحافظ عمر بن علي البزار: (وحدثني من أثق به أن
الشيخ رضي الله عنه كان ماراً يوماً في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ
حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه فنزع ثوباً على جلده ودفعه إليه وقال بعه بما تيسر
وأنفقه واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شيء من النفقة) (1).
_________
(1)
((الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية)) لسراج الدين
(65).
نماذج
من رحمة العلماء المعاصرين:
رحمة
الشيخ ابن باز رحمه الله:
يقول الشيخ محمد بن موسى الموسى: (في يوم من الأيام
طلب مني أحد السائقين لدى سماحة الشيخ أن يتصل عبر الهاتف بأهله خارج البلاد أي
يريد الاتصال من الهاتف الذي في منزل سماحة الشيخ فقلت له: لا بد من الاستئذان من
سماحته فأتيت إلى سماحة الشيخ وقلت له: فلان طلب مني الإذن له بالاتصال بأهله. فقال
سماحته: لعلك منعته فقلت: لا بد من إذن سماحتكم, فقال: اتركه يتصل, لا تمنعوهم
ارحموهم, أما لكم أولاد أعوذ بالله, الرسول - صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا
يرحم لا يرحم))) (1).
_________
(1) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قالوا
عن الرحمة:
يقول
العلامة السعدي رحمه الله عن علامة وجود الرحمة في قلب العبد: (وعلامة الرحمة
الموجودة في قلب العبد، أن يكون محبا لوصول الخير لكافة الخلق عموما، وللمؤمنين
خصوصا، كارها حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته)
(1).
فمتى ما وجدت هذه العلامة في قلب العبد دلت على أن قلبه عامر بالرحمة, مفعم
بالرأفة.
وقال الرافعي:
(إن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى
إنما هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته،
وهو الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه
الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفولتها إلى شبابها
إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل) (2).
وقال مصطفى لطفي
المنفلوطي:
(إن الرحمة كلمة صغيرة .. ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما
بين الشمس في منظرها, والشمس في حقيقتها.
لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا
مغبون ولا مهضوم ولأقفرت الجفون من المدامع ولاطمأنت الجنوب في المضاجع. ولمحت
الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.
أيها الإنسان ارحم
الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غير صبية صغار ودموع غزار ارحمها قبل أن
ينال اليأس منها ويعبث الهم بقلبها فتؤثر الموت على الحياة.
ارحم الزوجة أم ولدك
وقعيدة بيتك ومرآة نفسك وخادمة فراشك لأنها ضعيفة ولأن الله قد وكل أمرها إليك وما
كان لك أن تكذب ثقته بك.
ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه فإنك إلا تفعل
قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين.
ارحم الجاهل لا تتحين فرصة عجزه عن
الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم ولا تتخذ عقله متجراً تربح فيه ليكون
من الخاسرين. ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم ويبكي بغير دموع
ويتوجع. ارحم الطير لا تحبسها في أقفاصها ودعها تهيم في فضائها حيث تشاء وتقع حيث
يطيب لها التغريد والتنقير إن الله وهبها فضاء لا نهاية لها فلا تغتصبها حقها
فتضعها في محبس لا يسع مد جناحها أطلق سبيلها وأطلق سمعك وبصرك وراءها لتسمع
تغريدها فوق الأشجار وفي الغابات وعلى شواطئ الأنهار وترى منظرها وهي طائرة في جو
السماء فيخيل إليك أنها أجمل من منظر الفلك الدائر والكوكب السيار.
أيها السعداء
أحسنوا إلى البائسين والفقراء, وامسحوا دموع الأشقياء وارحموا من في الأرض يرحمكم
من ف