يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
يعتبر مجال الخلق, وإفنائه, وإعادة خلقه, من المجالات الغيبية التي لا يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلي تصور صحيح بغير هداية ربانية, ومن هنا فإن العلوم التجريبية لا يمكن لها أن تتجاوز في تلك المجالات مرحلة التنظير بمعني وضع نظرية من النظريات أو اقتراح فرض من الفروض.
وتتعدد الفروض والنظريات بتعدد خلفية واضعيها العقدية والثقافية والتربوية والنفسية, ويبقي للمسلم في هذا المجال نور من الله الخالق في آية من كتابه الكريم, أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم عليه وعليهم أجمعين) يمكن أن يعينه علي الارتقاء بإحدي تلك النظريات العلمية إلي مقام الحقيقة لمجرد ورود اشارة لها في أي من هذين المصدرين من مصادر وحي السماء اللذين حفظا بحفظ الله باللغة نفسها التي نزل الوحي بها( اللغة العربية) علي مدي أربعة عشر قرنا ـ أو يزيد ـ دون نقص أو زيادة, ونكون في هذه الحالة قد انتصرنا للعلم بالوحي الثابت من كتاب الله المحفوظ بحفظه, أو بسنة رسوله( صلي الله عليه وسلم) وهي من الوحي, ولم ننتصر لهما بالعلم المكتسب لأنهما فوق ذلك وأعظم وأجل..!!
فمجرد ورود إشارة في كتاب الله أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) إلي ما يدعم إحدي النظريات العلمية التي لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بعد مجاهدة كبيرة, عبر سنوات طويلة, استغرقت جهود آلاف من العلماء يرقي بهذه النظرية إلي مقام الحقيقة, ويعتبر إعجازا علميا في كتاب الله أو في سنة رسوله( صلي الله عليه وسلم) لمجرد السبق بالإشارة إلي تلك الحقيقة العلمية قبل وصول الإنسان إليها بفترة زمنية طويلة تقدر بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا
(الكهف:51)
والقرآن الكريم الذي يقرر أن أحدا من الإنس أو الجن لم يشهد خلق السماوات والأرض, هو الذي يأمرنا بالنظر في قضية الخلق( خلق السماوات والأرض, خلق الحياة, وخلق الإنسان) بعين الاعتبار والاتعاظ فيقول( عز من قائل):
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ..( الأعراف:185)
ويقول( سبحانه):
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون
(غافر:57)
ويقول( سبحانه وتعالي):
أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت
(الغاشية:17)
ويقول( تبارك وتعالي):
أولم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير
(العنكبوت:19 و20)
وبالنظر في السماء توصل علماء الفلك والفيزياء الفلكية إلي عدد من النظريات المفسرة لنشأة الكون وإفنائه, وأكثر هذه النظريات قبولا في الأوساط العلمية اليوم هما نظريتا الانفجار العظيم
(TheBigBangTheory)
والانسحاق العظيم
(TheBigCrunchTheory)
وكلاهما يستند إلي عدد من الحقائق المشاهدة.
الشواهد العلمية علي صحة نظرية الانفجار العظيم
(1) التوسع الحالي للكون المشاهد:
وهي حقيقة اكتشفت في الثلث الأول من القرن العشرين, ثم أكدتها حسابات كل من الفيزيائيين النظريين والفلكيين, والتي لاتزال تقدم مزيدا من الدعم والتأييد لتلك الحقيقة المشاهدة بأن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تكاد تقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بحوالي300000 كيلو متر في الثانية), وقد سبق القرآن الكريم كل تلك المعارف بأكثر من ثلاثة عشر قرنا إذ يقول الحق( تبارك وتعالي):
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون
( الذاريات:47)
وإذا عدنا بهذا الاتساع الكوني الراهن إلي الوراء مع الزمن فإن كافة ما في الكون من صور المادة والطاقة والمكان والزمان لابد أن تلتقي في جرم واحد, متناه في ضآلة الحجم إلي ما يقترب من الصفر أو العدم, فيتلاشي كل من المكان والزمان, ومتناه في ضخامة الكتلة والحرارة إلي الحد الذي تتوقف عنده قوانين الفيزياء النظرية, وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله تعالي فنشر مختلف صور الطاقة, والمادة الأولية, للكون في كل اتجاه, وتخلقت من تلك الطاقة المادة الأولية, ومن المواد الأولية تخلقت العناصر علي مراحل متتالية, وبدأ الكون في الاتساع, ومع اتساعه تعاظم كل من المكان والزمان, وتحولت مادة الكون إلي سحابة من الدخان الذي خلقت منه الأرض وكل أجرام السماء, وما يملأ المسافات بينها من مختلف صور المادة والطاقة, وظل الكون في التمدد والتوسع منذ لحظة الانفجار العظيم إلي يومنا الراهن, وإلي أن يشاء الله( تعالي).
والانسحاق الشديد هو عملية معاكسة لعملية الانفجار الكوني الكبير تماما.
(2) اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك:
وقد اكتشفها بمحض المصادفة باحثان بمختبرات شركة بل للتليفونات بمدينة نيوجرسي هما أرنو أ. بنزياس
(ArnoA.Penzias)
وزميله روبرت و. ويلسون
(RobertW.Wilson)
في سنة1965 م علي هيئة اشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص, قادمة من كافة الاتجاهات في السماء, وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير, ولم يمكن تفسير تلك الاشارات الراديوية, المنتظمة, السوية الخواص إلا بأنها بقية الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم, وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الاشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة( أي ثلاث درجات فوق الصفر المطلق الذي يساوي ـ273 درجة مئوية)
وفي نفس الوقت كانت مجموعة من الباحثين العلميين في جامعة برنستون تتوقع حتمية وجود بقية للإشعاع الناتج عن عملية الانفجار الكوني الكبير, وإمكانية العثور علي تلك البقية الاشعاعية بواسطة التليسكوبات الراديوية, وذلك بناء علي الاستنتاج الصحيح بأن الاشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار تلك قد صاحب عملية التوسع الكوني, وانتشر بانتظام وسوية عبر كل من المكان والزمان في فسحة الكون, ومن ثم فإن بقاياه المنتشرة إلي أطراف الجزء المدرك من الكون لابد أن تكون سوية الخواص, ومتساوية القيمة في كل الاتجاهات, ومستمرة ومتصلة بلا أدني انقطاع, وبالإضافة إلي ذلك فإن هذا الاشعاع الكوني لابد أن يكون له طيف مماثل لطيف الجسم المعتم, بمعني أن كمية الطاقة الناتجة عنه في مختلف الموجات يمكن وصفها بدرجة حرارة ذات قيمة محددة, وأن هذه الحرارة التي كانت تقدر ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة عند لحظة الانفجار الكوني لابد أن تكون قد بردت عبر عمر الكون المقدر بعشرة بلايين من السنين علي الأقل, إلي بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق. وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني, وقضاء مبرم علي نظرية ثبات الكون واستقراره التي اتخذت تكؤة لنفي الخلق, وإنكار الخالق( سبحانه وتعالي) منذ مطلع القرن العشرين.
ولم تكن مجموعة جامعة برنستون بقيادة كل من روبرت دايك
(RobertDicke)
, ب.ج. إ. بيبلز
(P.J.E.Peebles)
, ديفيد رول
(DavidRoll)
وديفيد ولكنسون
(DavidWilkinson)
هي أول من توقع وجود الخلفية الاشعاعية للكون, فقد سبقهم إلي توقع ذلك كل من رالف ألفر
(RalphAlpher)
وروبرت هيرمان
(RobertHerman)
في سنة1948 م وجورج جامو
(GeogeGamow)
في سنة1953 م ولكن استنتاجاتهم أهملت ولم تتابع بشيء من الاهتمام العلمي فطويت في عالم النسيان.
(3) تصوير الدخان الكوني علي أطراف الجزء المدرك من الكون:
في سنة1989 م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا
(NASA)
مركبة فضائية باسم مستكشف الخلفية الكونية أو( كوبي
)CosmicBackgroundExplorer(orCOBE)
وذلك لدراسة الخلفية الاشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض, وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الاشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة( أي بحوالي2,735+0,06 من الدرجات المطلقة) وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده أي من اللحظة الأولي لعملية الانفجار الكوني العظيم, وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة
(DarkMatter)
بعد ذلك
كذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم علي أطراف الجزء المدرك من الكون( علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية), وأثبتت أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض, وقد سبق القرآن الكريم جميع المعارف الإنسانية بوصف تلك الحالة الدخانية منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة بقول الحق( تبارك وتعالي):
ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين
( فصلت:11)
وكان في اكتشاف هذا الدخان الكوني ما يدعم نظرية الانفجار الكوني العظيم.
(4) عملية الاندماج النووي وتآصل العناصر:
فتق الرتق الاول ثم طيه ثم فتق الثانى كى تبدل الارض غير الارض والسماوات
تتم عملية الاندماج النووي في داخل الشمس وفي داخل جميع نجوم السماء بين نوي ذرات الإيدروجين لتكوين نوي ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة, وقد أدت هذه الملاحظة إلي الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر بمعني أن جميع العناصر المعروفة لنا والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الايدروجين بعملية الاندماج النووي, فإذا تحول لب النجم المستعر إلي حديد انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء حيث يمكن لنوي الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء فتتخلق العناصر الأعلي في وزنها الذري من الحديد.
وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة بين فيزياء الجسيمات الأولية للمادة وعلم الكون, وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلق المادة وأضدادها مع اتساع الكون, وتخلق كل من المكان والزمان, ثم تخلق نويات كل من الايدروجين والهيليوم والليثيوم, ثم تخلق بقية العناصر المعروفة لنا, ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلق تلك العناصر قد تم علي مرحلتين, نتج في المرحلة الأولي منهما العناصر الخفيفة, وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة, والتدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي في داخل النجوم أو أثناء انفجارها علي هيئة فوق المستعرات هو صورة مبسطة لعملية الخلق الأول يدعم نظرية الانفجار العظيم ويعين الانسان علي فهم آلياتها, والحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية علي معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوي بعض العناصر, وقد بدأ هذه الحسابات هانز بيته
(HansBethe)
في الثلاثينات من القرن العشرين, وأتمها وليام فاولر
(WilliamFowler)
الذي منح جائزة نوبل في الفيزياء مشاركة مع آخرين في سنة1983 تقديرا لجهوده في شرح عملية الاندماج النووي, ودورها في تخليق العناصر المعروفة, ومن ثم المناداة بتآصل العناصر, وهي صورة مصغرة لعملية الخلق الأول.
(5) التوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون:
تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلي أن غاز الإيدروجين يكون أكثر قليلا من74% من مادته, ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي24% من تلك المادة, ومعني ذلك أن أخف عنصرين معروفين لنا يكونان معا أكثر من98% من مادة الكون المنظور, وأن باقي105 من العناصر المعروفة لنا يكون أقل من2%, مما يشير إلي تآصل العناصر, ويدعم نظرية الانفجار العظيم, لأن معظم النماذج المقترحة لتلك النظرية تعطي حوالي75% من التركيب الكيميائي لسحابة الدخان الناتجة من ذلك الانفجار غاز الإيدروجين,25% من تركيبة غاز الهيليوم, وهي أرقام قريبة جدا من التركيب الكيميائي الحالي للكون المدرك, كما لخصها عدد من العلماء من مثل:
Alpher,Gamow,Wagonar,Fowler
,Hoyle,Schramm,
Olive,Walker,Steigman,Rang,etc.
هذه الشواهد وغيرها دعمت نظرية الانفجار الكوني العظيم وجعلتها أكثر النظريات المفسرة لنشأة الكون قبولا في الأوساط العلمية اليوم, ونحن المسلمين نرقي بهذه النظرية إلي مقام الحقيقة الكونية لورود مايدعمها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين يخبرنا بقول الخالق( سبحانه وتعالي):
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( الأنبياء:30)
وهذه الآية القرآنية الكريمة التي جاءت بصيغة الاستفهام التوبيخي للكافرين والمشركين والملاحدة تشد انتباههم إلي قدرة الله التامة, وسلطانه العظيم اللذين يتضحان من إبداعه في خلقه, ومن صور ذلك الابداع خلق السماوات والأرض من جرم ابتدائي واحد سماه ربنا( تبارك وتعالي) باسم مرحلة الرتق, والرتق في اللغة الضم والالتئام والالتحام, وهو ضد الفتق( يقال رتقت الشيء فارتتق أي التأم والتحم), ثم أمر الله( تعالي) بفتق هذا الجرم الابتدائي فانفتق وهي مرحلة يسميها القرآن الكريم باسم مرحلة الفتق, وتحول إلي سحابة من الدخان( مرحلة الدخان) الذي خلق منه ربنا( تبارك وتعالي) كلا من الأرض والسماء, وماينتشر بينهما من مختلف صور المادة والطاقة مما نعلم ومالا نعلم, ثم يأتي العلم المكتسب في منتصف القرن العشرين ليكتشف شيئا من معالم تلك الحقيقة الكونية, ويظل يجاهد في إثباتها حتي يتمكن من شيء من ذلك بنهايات القرن العشرين, حيث نادي بحتمية انعكاس تلك النظرية تحت مسمي نظرية الانسحاق الكبير, ويبقي هذا السبق القرآني بالإشارة إلي الفتق بعد الرتق, أو مايسميه علماء الفلك بالانفجار العظيم, وما أدي إليه من تحول الجرم الابتدائي إلي سحابة دخانية خلقت منها الأرض والسماوات, وإلي توسع الكون إلي عصرنا الراهن وإلي أن يشاء الله, ثم طي ذلك كله مرة أخري إلي جرم واحد وانفجاره وتحوله إلي دخان وخلق أرض غير الأرض وسماوات غير السماوات, يبقي ذلك كله من أعظم الشهادات علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, وعلي أن هذا النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض.
ماذا بعد اتساع الكون؟
أدت الملاحظات العلمية الدقيقة عن توسع الكون, واكتشاف أشباه النجوم
(Quasars),
كما ادي اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك, وتصوير الدخان الكوني علي أطراف هذا الجزء المدرك من الكون, واستنتاج عملية الاندماج النووي وتخلق العناصر من غاز الايدروجين في داخل الشمس, وفي داخل غيرها من النجوم, والتوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون أدي ذلك كله إلي دعم نظريتي الانفجار الكوني العظيم, والانسحاق الكوني الكبير وإلي دحض غيرهما من النظريات وفي مقدمتها نظرية الكون الثابت والتي نادي بها كل من هيرمان بوندي
(HermannBondi),
وتوماس جولد
(ThomasGold),
وفريد هويل
.(FredHoyle)
في الاربعينات من القرن العشرين, والتي طرحت انطلاقا من الاعتقاد الخاطيء بأزلية الكون والذي ساد الغرب طوال النصف الأول من القرن العشرين, واستمر معه إلي اليوم علي الرغم من دحض المعطيات الكلية للعلوم لتلك الفرية الكبيرة..!!!
ونحن كمسلمين نرتقي بنظريتي الانفجار الكوني الكبير والانسحاق الكوني الشديد إلي مقام الحقيقة لوجود إشارة لهما في كتاب الله, علي الرغم من وجود بعض المعارضين, والرافضين لقبول كلتا النظريتين من الغربيين أنفسهم, وحتي الذين اقتنعوا بالنظريتين ودافعوا عنهما انقسموا حيالهما إلي مجموعات في غيبة اتباعهم للهداية الربانية في أمر مستقبلي من أمور الغيب, ومقدرة العلوم المكتسبة علي التنبؤ بالأمور المستقبلية محدودة جدا.
الاحتمالات المتوقعة لعملية توسع الكون:
(1) الاحتمال الأول: ويقترح فيه علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن يستمر الكون في التمدد والتوسع إلي مالا نهاية( هروبا من الاعتراف بالخلق وبالآخرة), وذلك بافتراض استمرار قوة الدفع إلي الخارج بمعدلات أقوي من قوي الجاذبية التي تشدالكون إلي الداخل في اتجاه مركزه, وهذا افتراض خاطيء تماما في ضوء الملاحظات الراهنة علي الجزء المدرك من الكون, ومن أبسطها أن استمرار تمدد الكون واتساعه يؤدي إلي خفض درجة حرارته بالتدريج حتي تنطفيء جذوة نجومه بانفجارها, أو بتحولها إلي أجسام باردة كالكواكب, أو إلي ثقوب سود تبتلع كل مايدخل في دائرة جذبها من مختلف صور المادة والطاقة, ومن هنا كان تمدد الكون إلي مالانهاية( وهو مايسمي بنموذج الكون المفتوح) أمرا مستبعدا في ضوء ماتفقده النجوم عن طريق إشعاعها من طاقة, والطاقة والمادة أمران متكافئان, واستمرار فقدان النجوم من طاقتها ينفي إمكانية استمرار الكون في الاتساع إلي مالا نهاية.
فشمسنا ـ علي سبيل المثال ـ تفقد في كل ثانية من عمرها من الطاقة مايقدر بحوالي4,6 مليون طن من المادة, وبافتراض استمرار الكون في التمدد سوف يستمر انتقال الطاقة من الأجسام الحارة كالنجوم إلي الأجسام الباردة كالكواكب والكويكبات, والأقمار والمذنبات حتي تأتي علي الكون لحظة تتساوي فيها درجة حرارة جميع الأجسام فيه فيتوقف الكون عن التمدد إن لم يكن عن إمكانية الوجود, فالاستمرار في توسع الكون مرتبط بالقوة الدافعة للمجرات إلي التباعد عن بعضها البعض وهي القوة الناتجة عن عملية الانفجار العظيم, وإذا كانت الحرارة التي نتجت عن تلك العملية والتي تقدرها الحسابات الرياضية والفيزيائية ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة في لحظة الانفجار قد انخفضت اليوم إلي أقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة فلابد أن القوة الدافعة, إلي الخارج والمؤدية إلي توسع الكون قد تناقصت بنفس المعدل, خاصة أن الحسابات الرياضية تشير إلي أن معدلات التمدد عقب عملية الانفجار العظيم مباشرة كانت أعلي بكثير من معدلاتها الحالية, وهذا هو الذي دفع بفلكي مثل آلان جوث
(AlanGuth)
إلي وضع نظرية الكون المتضخم
(TheInflationaryUniverse)
التي تقرر انه في وقت مبكر جدا من تاريخ الكون كان نموه نموا أسيا فائق السرعة, فائق التمدد, وهذا أيضا هو الذي دفع بكل من روبرت دايك
(R.H.Dicke)
وب.ج.أ.بيبلز
(P.J.E.Peebles)
إلي القول بأن الأرصاد الحالية للكون توحي بأن عصرنا الحالي إما أن يكون عصرا فريدا في التمدد عقب عملية الانفجار الكبير, أو أن الشروط الأساسية للتمدد يجب أن يتم تعديلها بشكل يحقق قدرا من التوافق مع هذه الأرصاد التي تثير تساؤلا عما إذا كان الكون الآن مفتوحا( أي مستمرا في التمدد إلي مالا نهاية) أو مغلقا( أي سوف يتمدد إلي أجل محدد ثم يبدأ في التكدس علي ذاته) أو مستويا بمعني انتفاء تحدب الكون, وقد أشارت إليه كل الحسابات الرياضية كالتي قام بها اليكساندر فريدمان
(AlexanderFreidmann),
وألبرت أينشتاين
(AlbertEinstein)
وغيرهما من الفيزيائيين النظريين والفلكيين.
والاستمرار في توسع الكون مرتبط بالقوة الدافعة بالمجرات للتباعد عن بعضها بعضا وهي مايعبر عنها أحيانا بسرعة الإفلات من قوي الجاذبية
(EscapeVelocity),
ولكل جرم سماوي مهما كانت كتلته سرعة إفلات محددة من قوة جاذبيته, فسرعة الإفلات من جاذبية الأرض تقدر بحوالي11 ـ22 كيلومترا في الثانية, بمعني أنه إذا أطلق صاروخ من الأرض بهذه السرعة أو بأعلي منها فانه يستطيع التغلب علي الجاذبية الأرضية, ولكن هل سرعة توسع الكون الحالية تبلغ سرعة الإفلات من الجاذبية الكونية حتي يستمر في التوسع؟
يعتقد المشتغلون بكل من علمي الكون والفيزياء النظرية أن الأمر مرتبط بكثافة الكون, فإن كانت كثافته في حدود مايعرف بالكثافة الحرجة
(CriticalDensity)
فمعني ذلك أن قوة الجاذبية الكونية تكفي لإيقاف توسع الكون في المستقبل الذي لايمكن لأحد أن يعلمه إلا الله, أما إذا كانت كثافة الكون أقل من الكثافة الحرجة فمعني ذلك أن الكون سيبقي متوسعا إلي مالا نهاية, وهذا مالايمكن إثباته لأن الانسان في زمن تفجر المعارف العلمية الذي نعيشه لايدرك أكثر من10% من مادة الكون المنظور, فأني له أن يصل إلي معرفة كثافة هذا الجزء من الكون المليء بصور المادة غير المرئية من مثل الثقوب السود, والمادة الداكنة, وجسيمات النيوترينو
(Neutrino)
وغيرها, فضلا عن معرفة كثافة الكون غير المدرك؟ ولذلك يتحدث علماء الفلك عما يسمونه باسم الكتلة المفقودة
(TheMissingMass)
في الجزء المدرك من الكون, والتي يعللون وجودها بأن كميات المادة والطاقة المشاهدة فيه أقل بكثير عن الكمية اللازمة لابقاء أجزائه متماسكة مع بعضها بعضا بفعل الجاذبية, بل يحتاج ذلك إلي عشرة أضعاف الكمية المدركة من المادة لكي يبقي الجزء المدرك من الكون في تماسك واتزان, ومن هنا كان التقدير بأن90% من مادة الجزء المدرك من الكون غائبة عن إدراكنا.
(2) الاحتمال الثاني: ويقترح فيه علماء الكون نموذجا للكون المتذبذب
(TheOscillatingUniverse)
بغير بداية ولا نهاية ـ هروبا من الاعتراف بالخلق وجحودا بالخالق( سبحانه وتعالي) ـ ويبقي الكون في هذا النموذج متذبذبا بين التكدس والانفجار أي بين الانكماش والتمدد في دورات متتابعة ولكنها غير متشابهة إلي مالا نهاية تبدأ بمرحلة التكدس علي الذات ثم الانفجار والتمدد ثم التكدس مرة أخري وهكذا.
واقترح ريتشارد تولمان
(RichardTolman)
في سنة1934 م أن كل دورة من دورات تذبذب الكون لاتتشابه مع ماقبلها من الدورات بافتراض أن النجوم تنشر إشعاعها في الكون فتتزايد أعداد فوتونات الطاقة ببطء فيأتي كل انفجار كوني أعلي حرارة من سابقيه علي الرغم من التدمير الكامل الذي يعم الكون في كل مرحلة, وهو افتراض ساذج ينسي انطواء الكون علي ذاته بكل مافيه من مختلف صور المادة والطاقة والمكان والزمان, وانغلاق ذلك كله في كل عملية تكدس يمر بها الكون, ولذلك لم يستطع هذا النموذج المقترح الصمود في ضوء معطيات علم الفلك الحديثة.
(3) الاحتمال الثالث: ويتوقع فيه العلماء تباطؤ سرعة توسع الكون مع الزمن وهي القوة الناتجة عن عملية الانفجار العظيم, فكما أن الحرارة التي نتجت عن تلك العملية والتي تقدر حسابيا ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة لحظة الانفجار قد انخفضت اليوم إلي أقل قليلا من الثلاث درجات مطلقة( أي إلي ـ270 درجة مئوية), فلابد أن القوة الدافعة إلي الخارج والمؤدية إلي توسع الكون قد تناقصت بنفس المعدل, خاصة أن الحسابات الرياضية تشير إلي أن معدلات التمدد الكوني عقب عملية الانفجار العظيم مباشرة كانت أعلي بكثير من معدلاتها الحالية( الكون المتضخم بسرعات فائقة).
ومع تباطؤ سرعة توسع الكون تتفوق قوي الجاذبية علي قوة الدفع بالمجرات للتباعد عن بعضها بعضا فتأخذ المجرات في الاندفاع إلي مركز الكون بسرعات متزايدة, لامة مابينها من مختلف صور المادة والطاقة فيبدأ الكون في الانكماش والتكدس علي ذاته, ويطوي كل من المكان والزمان حتي تتلاشي كل الأبعاد أو تكاد, وتتجمع كل صور المادة والطاقة المنتشرة في أرجاء الكون حتي تتكدس في نقطة متناهية في الضآلة, تكاد تصل إلي الصفر أو العدم, ومتناهية في الكثافة والحرارة إلي الحد الذي تتوقف عنده كل قوانين الفيزياء المعروفة, أي يعود الكون إلي حالته الأولي( مرحلة الرتق) ويسمي هذا النموذج باسم نموذج الكون المنغلق
(TheClosedUniverse)
وتسمي عملية تجمع الكون بنظرية الانسحاق الكبير
(TheBigCrunchTheory),
وهي معاكسة لعملية الانفجار الكبير. ونحن المسلمين نؤمن بتلك النظرية لقول الحق( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين.
(الأنبياء:104)
ولايستطيع أي إنسان كائنا من كان أن يتوقع شيئا وراء ذلك الغيب المستقبلي بغير بيان من الله الخالق, والقرآن الكريم يخبرنا فيه بقول الحق( تبارك وتعالي):
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار.( إبراهيم:48)
وبقوله( عز من قائل):
أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر علي أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبي الظالمون إلا كفورا.( الإسراء:99)
ومعني هذه الآيات الكريمة أن الله( تعالي) سوف يطوي صفحة الكون جامعا كل مافيها من مختلف صور المادة, والطاقة, والمكان والزمان, علي هيئة جرم ابتدائي ثان( رتق ثان) شبيه تماما بالجرم الابتدائي الأول( الرتق الأول) الذي نشأ عن انفجاره الكون الراهن, وأن هذا الجرم الثاني سوف ينفجر بأمر من الله( تعالي) كما انفجر الجرم الأول, وسوف يتحول إلي سحابة من الدخان كما تحول الجرم الأول, وسوف يخلق الله( تعالي) من هذا الدخان أرضا غير أرضنا الحالية, وسماوات غير السماوات التي تظلنا, كما وعد( سبحانه وتعالي), وهنا تبدأ الحياة الآخرة ولها من السنن والقوانين مايغاير سنن الحياة الدنيا, فهي خلود بلا موت, والدنيا موت بعد حياة, وسبحان القائل مخاطبا أهل الجنة:
ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ق:34)
وصلي الله وسلم وبارك علي خاتم الأنبياء والمرسلين الذي يروي عنه قوله: والله مابعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار, وإنها لجنة أبدا أو نار ابدا.
ومن الأمور المعجزة حقا أن يشير القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة من السنين إلي أهم نظريتين في خلق الكون وإفنائه وهما نظريتا الانفجار الكبير والانسحاق الكبير ونحن نرتقي بهاتين النظريتين إلي مقام الحقيقة لمجرد ورود إشارة إليهما في كتاب الله الخالد الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن المعجز أيضا أن ترد الآيتان المشيرتان إلي كلتا النظريتين في سورة واحدة من سور القرآن الكريم وهي سورة الأنبياء( الآيتان:30 و104).
ومن المعجز حقا تلك الإشارة القرآنية المبهرة باعادة خلق أرض غير الأرض الحالية, وسماوات غير السماوات الحالية, وهو غيب لايمكن للانسان أن يصل إليه أبدا بغير هداية ربانية, وهي الهداية. التي تحسم الجدل المحير في أمر من أمور الغيب المطلق, حار فيه علماء العصر, فسبحان الذي أنزل القرآن بعلمه فقال مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم)
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا
(النساء:166).
الأهرام القاهرية 2/7/2001